كربلاء... اختفى الحمام من مرقد الحسين وسادت هندسة العلب

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
22/06/2012 06:00 AM
GMT



أن يتحول المكان الى خطوط ومساحات فهذا ما نعرفه، ولكن ان يتحول الى روائح ومواقف ومشاعر وافكار فهذا ما حدث في باب قبلة الحسين حيث بدأت خطاي الاولى الى ساحة الامام علي المشهورة بساحة البلوش. كانت الاشياء والافكار والشخصيات تتحد وتتجسم امام عينين لا تشبعان من النظر الى هذه التغيرات. التاريخ يدفق من صوت الشيخ عبد الزهره الكعبي وهو يقرأ مقتل الحسين في رأس سوق العرب في اول عزف للغة الفصحى على اذنين لم تسمعا مثل هذا الكلام الذي جعل الخيول والابطال والمواقف الانسانية تخلب لب طفل.. هناك كانت البطولة ومن هنا انفتحت الرؤى كل من يبرز الى مصرعه يرتجز... في ذات الشارع تمر ايام واذا نحن نلعب كرة القدم او يطارد بعضنا بعضا في الزقاق ونعود من المدرسة نتسابق لرؤية اللقالق على برج الحسينية الطهرانية وقد سمعت شخصا يشرح لوالدي عنها وقال له انها تهاجر في الصيف الى كربلاء وتعود شتاء الى افريقيا واتسع المكان وانفتح منذ ذلك الحين.. على سطح البيت كنت في الليل اظل ساهرا مستمتعا بانتشار الضوء النابع من المنائر الحسينية الى كبد السماء وحفيف اجنحة اللقالق على برج الحسينية الطهرانية التي كانت اعلى من بيتنا.. كان اول حلم بالطيران وكنت اطير في خيالي مع طقطقة مناقير اللقالق في الليل الذي يشبه طرقا على الخشب جافا وخاويا ولكنه في ليل المدينة دعوة لي بالطيران على جميع من وقفوا ظالمين ضد الحق.. على بعد مائتي متر كان المخيم الحسيني يلوح مكتوبا على بابه السلام على الخيام الخالية وكان علي دائما ان ادخل المخيم لأبحث عن الابرياء الذين قتلوا وسبوا وكان ابي يلمحني وهو جالس في مقهى حسين كلك ويعرف وجهتي دون ان يسألني ثم اذهب الى مغتسل المخيم حيث ارى الجنائز هناك تغسل وتكفن ثم تشيع وسط بكاء وعويل المشيعين في مشهد يومي لا يتوقف عن التكرار حتى اصبح اللعب مع الاصدقاء والجنائز طقسا يوميا. وكان حسين دوينه اشهر دفان في كربلاء ذا نظرات ثاقبة ومليئة بالغموض تجعل اوصالنا ترتجف وهو يصيح يا الله على بابك وهنا كان للموت طعم ورائحة تفوح من دشداشة حسين دوينه وهو يعود بالتابوت فارغا من مقبرة المدينة وينظر لنا بسخرية وحقد. والى جهة ساحة الامام علي تتقابل مكتبتان مغريتان بما تعرضان من مجلات منوعة وصحف هما مكتبة الفرات لمجيد الفراتي ومكتبة عوينات. وقد كان مجيد الفراتي يؤجر لنا المجلات بعشرة فلوس وكنا نندهش عندما نعرف ان الشبكة تصدر في لبنان، وان روز اليوسف في مصر، وان الوطن العربي في فرنسا، وان العربي في الكويت. ومع هذه المجلات بدأ التحليق مع اللقالق على اشده وصارت المجلات والكتب في القابل من الايام هي اللقالق الوافدة. وكان مجيد الفراتي طيبا جدا لانه يأخذ الفلوس العشرة ايجارا مني على قراءة اية مجلة امام مكتبته ولكني اكتشفت بعد الابتدائية انه كان يعيدها الى ابي عندما يمر عليه خصوصا ان مكتبته كانت ملاصقة للزقاق من جهة ساحة البلوش... فجأة يتحول هذا الشارع الى نهر من الرجال والرايات ويكتسي بالسواد ويبدأ الشجن يغزو ارواحنا ونلبس دشاديشنا السوداء ويمتلئ هذا الشارع وزقاقنا بالوافدين من جميع الاشكال خيول وخيام تحرق ومواكب للهنود والايرانيين والبحارنة كنت احب طبيخهم كثيرا لانه يسيطر علينا برائحة توابله النفاذة الطيبة.. وكان للجنوبيين حصة اكبر في الحضور وكنا نحفظ القصائد التي تكتب على قطع الكارتون وهي تتجول مع مجموعات العزاء في كل موكب وكنا نحفظها سريعا ..وكان هناك لاول مرة شعر ونظم للكلام عاميا وفصيحا ولكنه منح الخيال قدرة على التحليق بأجنحة اللغة .اذن فليكن الشعر رائدا للحاق باللقالق... اشتريت ديوان الجواهري الجزء الرابع من مكتبة نينوى وقد ادمنت قراء قصيدة يا ام عوف وما زلت احبها وأحب ام عوف لحد الآن وقد مر الشاعر بها وهو منفي في قضاء علي الغربي وما زالت لحد الآن تتحدث عن ليالينا العجيبات وهن ينزلن ناسا على حكم ويعلينا ونحن نطير رهوا بما استطاعت خوافينا... قادني هذا الشاعر الى ديوان منزل الاقنان للسياب وعندما قرأت قصيدة رحل النهار كدت امرض لتعاطفي مع الشاعر وكنت قد احسست ان معمار هذه القصيدة يختلف تمام الاختلاف عن قصائد الجواهري وفي الاول متوسط عجز مدرس اللغة العربية عن توضيح الاسباب على الرغم من ان الرجل اسهب كثيرا ولكني كنت اتبع ما في ذهني وذائقتي فقط... مقهى الصراف المقابل لزقاقنا كان يحتشد منذ الظهيرة حتى المساء بالانيقين والمعلمين الذين يتصفح كل منهم جريدة وكانت الجرائد المتروكة على القنفات طعاما لا يكلفني ثمنا للقراءة وكنت اقرأ طريق الشعب والثورة والجمهورية والراصد وحتى الاهرام احيانا وكان الكاريكاتير يسحرني كثيرا واجمل تحفة قطفتها في هذا المقهى ان صاحب المقهى كان يترك صوت فيروز يغسل الشارع بنداوته وفرادته كل صباح ومنه بدأت اسمع فيروز وكان التحليق وراء اللقالق قد زاد وصار كلاما ونغما وحضر شادي الذي يلعب على الثلج. ومن نفس المقهى علمت ان فيروز ستزور كربلاء بعد احياء حفلتها في بغداد التي غنت فيها قصيدة بغداد تلك القصيدة التي اطاحت بجميع القصائد التي قرأتها وجعلتني اندم على قراءة ديوان اوس بن حجر في المكتبة العامة، كنت اتصور ان فيروز لا تختلف عن الحمام الذي يتطاير هنا وهناك حول مرقد الحسين وفيه، وخطر ببالي ان أسالها اذا صادفتها من اين تعلمت التحليق ولماذا تطير وتحط في المدن والذاكرة وتطفر دون ان ندري على ألسنتنا.. وفي اليوم المرتقب وقفت ثلاث سيارات امام مرقد الحسين ونزلت فيروز ترتدي فوطة بيضاء ووجهها هو نفسه الذي رأيته في التلفزيون ولكنها كانت امامي حمامة وقد طاردتها بعدما خرجت وذهبت الى (التل الزينبي) مقام العقيلة زينب وصعدت درجات سوق الترب والاسفاط واشترت سفطا ملونا من الأسفاط التي تصنع في عين التمر من الحلفاء والخوص الملون وحيتني بابتسامة وطارت مع الحمام بسفطها الملون... ثم هكذا فجأة اختفى الحمام من مرقد الحسين ولم تعد اللقالق واغلقت الحسينية الطهرانية وطرد وسفّر اصدقائي في المدرسة خارج البلد هم وعوائلهم.. (ثم طردنا بعدهم خارج المدينة بعد اشتراكنا في قتال غير متكافئ في انتفاضة آذار 1991) ومنذ ذلك اليوم بدأت تضيق الشوارع ولكن نداء الحسين واصحابه يجعلها قابلة لأن تنبض بالحياة وصوت فيروز يجعلنا نقبض على الشجن ونذهب الى صفائنا واحلامنا وصارت اللقالق البيضاء تأتي مع كل كتاب وجريدة وصديق وصارت لدينا القدرة على استيعاب غياب احبائنا وصارت المدينة متحفا لاحلام وآلام الناس وظل هذا الشارع والمخيم الحسيني وتل الزينبية طيلة فترة الحروب اماكن تضيء في الذاكرة وتشير الى الكلمات والروائح والمواقف في طزاجتها الاولى ثم اتسعت مساحة الشارع لتصبح وطنا قد اسود من خضرته وعطش كثيرا بفراتيه ولكن هذه المدينة جعلتنا ندرك ان جيمس جويس اطلق يوليسيس في شوارعها لان دبلن ضاقت به ولهذا تجد كل كربلائي فيه شيء من ستيفن ديدالوس وليبولد بلوم حيث يحتشد الوعي بالتاريخ بالصبر بالذائقة وبحب الانفتاح والتطور واكتشاف الذات، ويذكرني هذا باني قرأت كفاحي لهتلر في مكتبة الخوئي المقامة في مرقد الامام الحسين من جهة باب الشهداء وكذلك كتاب انجلز اصل العائلة ونهج البلاغة والجريمة والعقاب... المدينة العظيمة كربلاء تجدها تماما في موسيقى بتهوفن حيث التقاطعات التي تنشأ اتساقا فاعلا.. وجدتها مدينة متنوعة متعددة كل حجر فيها وزقاق له انزياح ودلالة باهران وربما كانت الابنية قبل الحروب اكثر ايحاء وتأثيرا من البنايات العلب التي شاعت مع التخطيط الثمانيني كما قال لي صديق مهندس، لقد كانت شوارع كربلاء وازقتها واسواقها وانهارها قادرة على ان تضخ ذاكرتك بشعر غير مكتوب.. وكانت قادرة على جذب اللقالق والحمام الذي قل واختفى منذ مطلع الثمانينات والحروب وقد كان لكثرته في السابق ان رجلا ضريرا يجلس في مرقد الحسين يبيع الشعير فيشتريه الزائرون ويطشونه للحمام ونحن نتراكض اطفالا وسط غيمة من هذا الحمام... فمن يعلم الآن بأن البنايات تطرد اللقالق والحمام وكربلاء تحولت من هندسة الخيال الى هندسة العلب.. واللقالق لم تعد تبني عشها على برج الحسينية الطهرانية لان البرج انهار وهدمت الحسينية ذات الطراز المعماري الراقي. ولكنها مع لقالقها ما زالت تطل في الذاكرة على سطح البيت. هذا كله جعل كتاباتنا ونصوصنا وامزجتنا وقراءاتنا متعددة ورحنا نناور في الاشكال والاصوات لان المدينة تقدم لك في الصباح مزاجا طريا وآخر واضحا وحادا في الظهيرة وفي المساء يعمها السكون وتغشاها الصلاة وتنام اللقالق والحمام ، ويتجول في ليلها الشهداء.